" ياااااه .. الطريق دا أخد منى راقات "
ترددت تلك العبارة فى هدوء .. كنداء يأتى من بعيد ..
ترددت داخله .. فى أعمق أعماق قلبه .. حيث يحتفظ بذكريات تؤلمه دوما و تعذبه ..
ذكريات حبه الأول ..
كانت " سمر " جذابة بالفعل ..بارعة الحسن .. باسمة الثغر دوما ..
كانت أملا للكثيرين من زملائهما فى الكلية ..
و لكن هيهات ..
سهام الحب تعرف طريقها جيدا ..
و لقد أصابته - كما أصابتها - تلك السهام فى مقتل منذ السنة الأولى لهما فى الجامعة ..
لكم حلمت به .. و حلم بها ..
هل جربت يوما أن تتجسد أحلامك أمام عينيك فى صورة مادية تحمل كل ماجال بخاطرك من دون شك أو مواربة ؟
هما جربا هذا و عاشا تلك التجربة طويلا ..
و لقد ذكره ذلك الشارع بذكريات اللقاء ..
عندما كانا يتحركان خارج الجامعة .. ليجولا فى أرجاء المدينة ..
ثم ..
يجدا أرجلهما تأخذهما إلى ذلك الشارع الطويل الممتد ..
من دون إعداد أو تخطيط ..
و لكنه هيام العاشقين .. الذى تذوب معه الأحلام لتصبح حلما واحدا ..
و تذوب الأراوح لتصبح روحا واحدة ..
لكم شهدا من المواقف فى ذلك الشارع البعيد ..
أيام المطر .. و إرتعادهما المحبب من زخات الأمطار الباردة على معطفها و سرواله ..
و اختباءهما بمرح تحت شرفه من شرفات تلك المنازل العتيقة التى يغط بها الشارع على امتداده ..
أيام الإجازة ..
كانت هى من أهل المدينة .. و هو من المغتربين ..
كانا يتفقان على اللقاء ..
و بالتأكيد كان مكان اللقاء فى ذلك الشارع ..
كان شاهدا على حب ماله من مثيل .. جمعهما فلم يفترقا أبدا ...
كانا يعشقان ذلك الشارع ..
يهيمان فيه حبا ...
إذ كان يذكر كلا منهما بحبه الأول ..
تدافعت الذكريات فى رأسه كسلسلة من الصور الضبابية ..
كان كمن يراها من بعيد ..
ثم جاءت الصورة الأخيرة ..
أو المشهد الأخير ..
مشهد الفراق ..
شاحنة عملاقة .. جابت الأرضين ذهابا و إيابا ..
ثم اختارت من بين أجساد البشر جميعهم جسد حبيبته الرقيق لتسحقه تحتها سحقا فى مشهد أدمى قلوب الكثيرين ممن رأوه .. أو سمعوا عنه
و كان هو من الفئة الثانية ..
لا يتذكر تحديدا كيف استقبل نبأ وفاتها ..
و لكنها بالتأكيد كانت صدمة ..
صدمة زلزلت كيانه و تهشم لها قلبه كلوح زجاج ردىء ...
كان هذا منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام ..
و طيلة هذه المدة ..
كانت تأتيه حبيبته دوما فى أحلامه الليلية ..
يتنزها فى شارعهما المحبب ..
يتناجيا بعبارات الشوق و الحنين ...
ثم تفارقه على وعد بلقاء قريب ..
ثم ياتى اللقاء ...
أيضا فى أحلامه ..
و تتكرر نفس أحداث الحلم الأول ..
إلى ان يفترقا مرة أخرى ..
و لكن أحلامها إنقطعت عنه منذ مدة بعيدة ...
مدة جعلته ينساها.. أو يتناساها..
و إن لم ينقص حبها ذرة فى داخله ..
كان دوما يشعرأنها حية لم تمت ..
حية فى قلبه .. تناجيه و تناديه ..
إلى أن زارته فى آخر مرة ..
حينها إختلفت أحداث الحلم ..
فلقد جذبها فى نهاية الحلم قبل أن تفارقه كالعاده ..
و أخبرها أنه يود أن تبقى بجانبه للأبد ..
و لكنها تملصت منه بصعوبة ..
ثم أختفت بعد أن أخبرته أنها قريبا ستكون معه للأبد ..
لا زالت كلماتها الأخيرة تتردد فى أذنه و كأنها قالتها فى عالم الواقع ...
" قريبا ستنعم بقربى أكثر مما تتمنى . قريبا جدا "
... كان صوتها فى تلك العبارة رقيقا .. ناعما .. هادئا جدا جدا ..و عميقا ... إلى أقصى درجات العمق ..
تسلل إلى قلبه و روحه و أعاد إليه ذكرياتهما القديمة ..
و شارعهما القديم ..
فقرر العودة إلى نفس المكان ..
يرتشف عبير الحب و الحنان ..
يعيد ذكريات أيام ولت وولت معها كل الإبتسامات البريئة ..
حتى و إن كان وحيدا .. و لكن تكفيه الذكرى بالتأكيد ..
عاد ليقطع نفس الشارع الذى شهد أياما لن تنسى أو تنمحى ..
و بينما هو غارق حتى أذنيه فى خضم الأفكار و الأحلام ..
تسلل إلى أذنيه صوتها هادئا .. ناعما ..
تماما كما جاءه فى حلمه الأخير ..
كان قد وصل إلى أقصى درجات شوقه و هيامه ..
فما لبث أن التفت إلى مصدر الصوت ..
فإذا به يراها تبتسم إليه فى رقة ما بعدها رقة ..
و حنان ما بعده حنان ..
لم يصدق نفسه ..
بالطبع هو لا يحلم ..
هو يعلم أنه ليس حلما..
نادته ...
و كررت النداء ..
كانت تقف - أو هى تتهادى - فى الجانب الآخر من الطريق ..
تنظر إليه بكل الشوق .. و تناديه بكل الرقه ..
و هو كالمشدوه لا يعرف كيف هذا ..
و لكنه متأكد أنه يراها أمامه ..
فعبر الطريق إلى حيث تقف ..
ممنيا نفسه بلمسة من يديها ..
بهمسة رقيقة من بين شفتيها ..
ثم فجأة ..
شاحنة ضخمة مسرعة يقودها سائق متهور ..
تنهب الطريق فى جنون .. إلى حيث يقف ..
و حدث التصادم ..
و سالت دماؤه ..
و تجمع الناس ..
و تعالت الصيحات و الصرخات ..
و بين كل هذا .. كان هو يبتسم ..
الآن فقط أدرك معنى عبارتها الأخيرة ..
الآن أدرك كيف نبأته بقاء قريب..
تثاقل جفناه ..
و ارتخت أطرافه ..
ثم أظلم كل شىء ..
و تم اللقاء .. الذى طالما حلم به و تمناه ..
تم عبر شارعه الحبيب ..
و لكن فى دار أخرى .. آخرة